المرأة في عالمنا تعيش غبنا تاريخاويا بامتداد مساحة كوكبنا؛ نزيحها نحن الذكور دوما إلى الصفوف الخلفية؛ وإلى داخل الخباء؛ لا نقبل أن نسمع لها صوتا؛ ولا أن نرى لها فعلا إلا محفوفا بالضوابط والقواعد الكبحوية المستأثرة والمهيمنة؛ بل وكثيرا ما سطونا على مجمل حضورها في حياتنا.
مركز البحرين للمعارض


المرأة في حقيقتها تكيفت مع السياسوي المهيمن تاريخويا؛ وقبلت أن تكون في الصف الثاني؛ ليس من منظور العجز أو القهر؛ ولكن بدافع النهج الأموموي الفطروي، القادر على تحمل الألم الوجودوي؛ وما جبلت عليه من رحابة العطاء الباذخ وهي تبتسم حتى ولو انتزعته من ذاتها؛ وقد ابتكرت فنون الإيقاع والشعر والغناء والسرد والحكاية.

***** 
دارت هذه الخاطرة في ذهني، وأنا أتذكر أيقونة العمارة العربية الراحلة زها حديد؛ والتي مثلت علامة فارقة في هذا المجال؛ تضارع بأعمالها أعتى صناع ومبدعي هذا الفن الذكوروي بامتياز؛ بحكم أن الذكر هو المصمم لبنية الخباء التي تخفي ممتلكاته؛ وهو فاعل البناء الذي يوظف قدراته العضلية في إنشاء الحرملك الخاص به.

برج الابتكار



" زها حديد " أيقونة العمارة فرضت نفسها على فضائي؛ وقد ذكرني " فريق فيس بوك " بتدوينة سابقة حولها؛ وصفتها بأنها "أنثى العمارة المدهشة" كما أفضل تسميتها - ولكل كلمة دلالة- لأنها من دون شك تمثل إحدى العلامات في هذا الحقل الوجودوي؛ حقل إعمار الأرض؛ عبر التفكر والتأمل والتصور؛ المغاير للتقليدوي والشائع والمعلوم.
"زها حديد" هي المرأة الراحلة العراقية المولد والنشأة والتعليم؛ البريطانية الإقامة والتدريب والتأهيل والتخصص؛ التي أطلقت في حياتها – 65 عاماً - العنان لكل توقدها العقلوي؛ لتكون علامة فارقة في تاريخ العمارة العالمية المعاصرة؛ ولتُسقِط بإبداعها المعماروي؛ تلك التابوهات أي "المحرمات" الذكوروية التاريخوية في عالم عمارة المسكن تحديداً؛ لذلك تستحق "زها حديد" الوصف بأنها "أنثى العمارة  المدهشة".

مبنى سوهو جالاكسي في وسط بكين


*****
لماذا القول بأنها "أنثى العمارة"؟ لأن "زها حديد" لمن يدرس تجربتها المعماروية ونمط إبداعها البنائوي؛ يعرف حسب هذه القراءة الثقافوية لمشروعها المعماروي أنها قدمت فتوحاً شاسعة مغايرة ومناقضة لثوابت ومستقرات عالم العمارة؛ الذي احتكر فنه المُذكّر/ الرجل؛ وفرض بنائوياً علي صفاته وضوابطه وعناصره كل قوانينه النوعيوية؛ وأخلاقياوته وتوجسات مكامن مواجعه الذكوروية".


"زها حديد" شقت طريقاً مبدعاً؛ زاحم بالعمارة "النسوية أو الأنثوية" الكثير من مدارس العمارة المتوارثة؛ ذات الضوابط الذكوروية؛ المحكومة بعادة شروط السكن القاسية؛ بما تعكسه من تخوفات النوع الذكوروي الوجودوية؛ من مثل الستر والإخفاء والاحتجاب والخصوصوية، والتي جرى تقنينها والتنظير إليها عقدوياً وفقهوياً؛ لتكون العمارة الذكوروية عمارة حماءوية؛ مشايعة للتسلط الذكوروي في صياغة المجال الحيوي؛ الذي تتحرك المرأة/ الأنثى في فضائه.

مركز الفنون الحديثة بروما


والشرط الأساس هو أن يكون هذا الفضاء محكوماً بسلطة الذكورة الثقافوية؛ والاجتماعوية والعقدوية والاقتصادوية؛ حيث هذا الفضاء الاحتكاروي؛ يصوغ مجالات وجود وحركة الأنثى في إطار سياق تاريخوي عميق؛ مرتبط بتاريخ ترويض "الثيمة الأنثوية" الغنيمة للذكر، والذي احتكر السيطرة عليه تاريخوياً بفرط قوة الاستحواذ؛ ومنهجية التعامل مع الطرائد في "فقه الأسر"؛ إذ أن العقل الذكوروي منذ بداية نشوئه تاريخويا؛ هو عقل استحواذوي اقتناصوي.

لذلك طبع التفكير الذكوروي المعماروي وهو التفكير المتغلب شكل العمارة المنزلية بهواجسه الوجودوية؛ اذ اعتبر فن العمارة مجالاً مُحرَّماً على الأنثى أن تتدخل في سياق صياغته، حتى لا تنكسر وظيفة المعمار الوجودوية الـ"خِباءوية" كما يظن الذهن الذكوروي.


محطة مترو الرياض بالمركز المالي


 لذلك يخدم الشكل الخارجي النمطوي للطرز المعماروية ذكوروياً هذه الوظيفة بتعطيل خاصية الإشهار اللافت للأبصار الغريبة إذا توقفت لتأمل البناء القائم من خارجه؛ وكلما كان الشكل المعماري نمطوياً بمراعاة الشكل المنسدل بفتحات الاطلال على الخارج المرتفعة تكريسا للوظيفة الخباءوية فإنه لا يعطي الفرصة للالتفات؛ أو التوقف والتفكر في مدلولات الخارج والتساؤل والتخيل لكيفية الداخل البنائي. ولكن جاءت أشكال معمار "زها حديد" لتهشم وظيفوية التعطيل تلك عبر الأشكال المعمارية المنسدلة كالخمار، وتستدرج الأبصار للتوقف والتأمل في الغرائب المعمارية، وهو ما يتيح لغريزة التلصص الذكوري أن تمارس فعلها بممارسة الإبصار والنظر.


*****

ونتيجة لمنهجوية النشوء الثقافوي التاريخوي للمذكر الاستحواذوي على صناعة اللغة والتعبير؛ وصياغة المعاني وتكريس المفاهيم، كانت العمارة البشروية هي عمارة ملبية ومرسخة لرغبات هذا التكوين النوعوي الذكوروي المتغلب؛ عبر ترسيخ استراتيجية الإخفاء الإهمالوي لتصورات المرأة في الوجود المكانوي، وليكون "حرم النساء" في البيت اليوناني القديم على سبيل المثال في نهاية فضاء البيت، وقس على ذلك "الحرملك" الشرقوي المستجلب تسميته من التحريم؛ وحسب "قاموس المعاني": فإن اصطلاح" الحَرَم: ما لا يحلّ انتهاكه، وما يحميه الرَّجل ويدافع عنه؛ وحَرَم الرَّجل: ما يقاتل عنه ويحميه، وشاع استعماله بمعنى الزَّوجة".

معلم في شنغهاي

 لذلك صاغت العقلية الذكوروية كل أنماط البيوت؛ تلبية لمخاوف تلك العقلية في عوالم وجود ذكور آخرين؛ سمتهم ووظيفتهم بدءاً منذ تاريخ الوجود في الغابة هي القنص.


ووسط هذه النمطوية المتغلبة من العمارة الذكوروية؛ جاءت "زها حديد" بعقلية الأنثى، لتنتمى إلى عوالم "العمارة التفكيكوية"؛ أي العمارة التي تُولِّد لديك الإحساس غير المنتظم في روتينيته؛ والهادمة لمفهوم العمارة التقليدية المهتمة بالمُحَرَّم واللامسموح وغير الممكن أيضاً، فوجهت إلى عمارتها اتهامات بأنها من نوعية العمارة التخطيطية فقط والتي لا يمكن تنفيذها؛ لكن عمارة "زها حديد" كانت راسخة تعطى اهتماماً أساسياً إلى عنصر معدن الحديد؛ بدلالة صلابته وفولاذيته وتماسكه في مواجهة الأثقال البنائية في تشكيلاتها الجديدة والتي تضمن تحقق غرابة الأشكال وأحيانا لا منطقيتها؛ وكأن "زها حديد" تهوى أن تبدو عمارتها حسب مفهوم العمارة التفكيكوية؛ هي عمارة صُلبة؛ إذ " لا يفل الحديد إلا الحديد"؛ وهذا المعدن الهيكلي الذي يجري تطويعه ضامن للثبات بقوته.

دار الأوبرا في مدينة غوانزو في الصين


*****
وعلى الرغم من الانتقادات غير الموضوعوية؛ فإن عمارة "زها حديد" التفكيكوية أخذت تجتاح بمشروعاتها كثيراً من الأماكن والقارات؛ باعتبارها "عمارة ما بعد الحداثة"؛ بمفاهيمها المختلفة الجديدة بتجاوزها قيمة التوازن التقليدوية وعدم الاكتراث بعنصري التعامد والامتداد الأفقوي؛ سعياً لتخليق شكل معماروي جديد، قد يوصف بالشطط؛ لأنه محكوم بالخيال المسبق الذي قرأ جغرافوية ومكونات المحيط الذي سيقام به المبني وسيحمل توقيع "زها حديد"؛ وحسب هذا المنهج المعماروي التفكيكوي؛ فإنه يضمن فضاءات لا يتوقعها المتأمل من خارجها؛ وتلك هي الروح الأنثوية العبقرية في قراءة الفضاء/ المكان؛ إذ تمتلك الأنثى مخيالاً كبيراً في النظر إلى توظيف المكان/ الفضاء.

والدليل هو ما تقدمه المرأة/ الانثى حين التعامل مع ترتيب بيتها من الداخل، عبر حركة التغيير والتبديل للمكونات داخل غرف البيت؛ بتقدير متجدد للمسافة والمساحة واختبار تخيلها في تعبئة المكان بمفردات البيت من الأثاث. 

جناح شانيل للفنون المتنقلة

*****
إن مجمل عمارة " زها حديد" يكسر المألوف، لأن تجسيد الخيال المستحيل هو طموحها، ومنبع رؤيتها هو الوجود في كل تجلياته؛ البحر؛ الفضاء؛ المجال الصحراوي المنبسط من دون نهاية؛ وما تحققه تلك الفضاءات من الإحساس بالحرية المطلقة؛ وكأنها القيمة المفقودة لدى الذهنوية الأنثوية التي تشعر بالأسر؛ فتقاتل من أجل الحصول على تلك القيمة الإنسانية السليبة وجدانوياً من النوع.


بل في أحيان كثيرة يشعر العقل التفكيكوي الناقد؛ أنه يشاهد في أعمال "زها حديد" عمارة خرافوية؛ مشتقة من مهارة القص والحكي الأنثوي الأسطوروي للأطفال، وهو حكي مُشوِّق بغرابته؛ تنفرد به الأنثى / الأم، وهي تستجلب مهارة وتكتيك "شهرزاد" الحكاءوية، فتهيمن على تفكير الأطفال؛ وتطوعهم بقدرتها السردوية للاستجابة لما تطلبه منهم؛ فيستسلمون للنعاس بعد حكاية المساء.

برج متحف ون ثاوساند في ميامي


عمارة "زها حديد" هي هكذا؛ بقدر إحكام قدرتها السردوية، تسند عمارتها الغريبة بتوظيف التقنية الإنشاءوية البناءوية، لتنفيد ما تحكيه معماروياً، والدليل على ذلك هو انتشار أعمالها في أقطار كثيرة، مدهشة الشكل، وغريبة الحضور؛ مفككة الأجزاء شكلياً غير أنها متماسكة كلياً في العلاقات المعماروية.


*****


إن عوالم "زها حديد" المعمارية؛ تستمد خيوطها أيضاً من مهارة التفكيك التي مارستها في طفولتها؛ فكل طفل يمارس دافعية الرغبة في التفكيك وإعادة الصياغة للمجسم الذي يتفاعل معه، فيبتكر شكلاً جديداً لما بين يديه وقام بتفكيكه؛ ويخلق أيضا له وظيفة وفق منطقه الخاص في تكييف الأشكال التي صنعها مغايرة للشكل الشائع، وهي كذلك المهارة التي تتابعها الأنثى/ الام؛ وتبدي بهجتها وتشجيعها لطفلها بما صنعه جديداً.


ويلحظ العقل المفكك لإعمالها؛ كأن الشكل الخارجي لعمارة "زها حديد" مُنبتِّ الصلة بالفضاء الداخلي؛ أي يتساءل المشاهد من الخارج عن أية فضاءات يمكن أن يحتويها هذا الشكل الخارجي المنحني؛ أو المائل؛ أو المعقوف من العمارة المتكسرة؛ والمتشظية الكتل؛ والمتعرجة والمتراكبة أو المتساندة طوليا وعرضيا في إفراط كبير؛ يصل إلى حد الإحساس الخارجي المخادع بالتفريط في المساحات الداخلية.

غير أن الفضاء الداخلي لشكلانوية العمارة الخارجوية التفكيكوية يؤدي وظيفته باقتدار حسب المطلوب منه، ما يعني أنه لا غرابة في وظيفوية الداخل؛ لأنه يؤدي غرضه الانتفاعوي حسب المطلوب، وتصبح البراعة والغرابة هي في الشكل الخارجي الهادم لكل الأنماط التقليدية للثوابت المعماروية المستقرة. 

خاتم جورج جينسون

وتكفي النظرة التحليلوية لعمارة "زها حديد" التفكيكوية من الداخل للحكم على جديتها فيما أفرطت في التأكيد على تحطيمه في خارج الشكل المعماري، سواء كان المسبح الأوليمبي لدورة الألعاب الأولمبية في لندن العام 2012م، أو منصة التزلج على الجليد في إنسبروك بالنمسا، أو دار الأوبرا في غوانغجو بالصين؛ أو المتحف الوطني لفنون القرن الحادي والعشرين في روما؛ أو جسر أبوظبي، أو المجمع الفني في أبوظبي، أو منزل Capital Hill في روسيا، أو مجمّع كرة القدم في طوكيو، أو مبنى الفن المعاصر في أوهايو؛ والعديد؛ العديد من الأشكال المعماروية المبهرة؛ التي نالت تقديراً لها أرفع الأوسمة والجوائز.


*****


وبغياب "زها حديد" ينطفىء شعاع مصباح جميل من ثُريا العمارة النسوية المدهشة؛ التي كانت "زها" من أبرز تجلياتها في فن العمارة التفكيكوية ما بعد الحداثوية؛ بكل تحطيمها للمألوف المعماروي... لكنها عمارة بأناقة فستان الأنثى!!. 


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).